فاز حزب المعارضة الرئيسي "الكومينتانج" (Kuomintang)، بانتخابات رئاسة البلديات والمقاطعات، والتي أجريت يوم 26 نوفمبر 2022، وحصل الحزب على 13 مقعداً من أصل 21 مقعداً جرى التنافس عليها، بما في ذلك مقعد العاصمة تايبيه.
ويُعد فوز المعارضة أكبر هزيمة لحقت بالحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم بزعامة تساي إنج – وين، رئيسة تايوان، والتي أقرت بالهزيمة وأعلنت استقالتها من منصب رئاسة الحزب، مؤكدة أن "نتائج الانتخابات لم تكن متوقعة، وأنها تتحمل كل المسؤولية لأسوأ هزيمة تعرض لها الحزب الحاكم". ولا شك أن هذا التحول ستكون له أصداء خارجية واضحة، وعلى وجه الخصوص علاقة تايبيه بواشنطن وبكين.
أهمية خاصة للانتخابات:
تحتل هذه الانتخابات أهمية كبيرة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- أهمية الانتخابات للمواطنين: تعد هذه الانتخابات مهمة للمواطن العادي، لأنها ترتبط بالسياسات الدنيا التي تتعلق بمستوى معيشته، إذ إنها ترتبط بقضايا داخلية، أبرزها كيفية التعامل مع تفشي وباء كورونا، ومكافحة الجريمة.
ويُطلق على هذه الانتخابات في تايوان انتخابات "تسعة في واحد" (nine-in-one)، لأن الناخبين يدلون بأصواتهم للمسؤولين المحليين المنتشرين عبر تسعة مستويات إدارية، بدءاً من رؤساء الأحياء، وصولاً إلى أعضاء مجالس المدينة ورؤساء البلديات.
2- قربها من الانتخابات الرئاسية: على الرغم من أن من يتم انتخابهم ليس لديهم رأي مباشر في السياسة الخارجية لتايوان، لاسيما علاقاتها مع الصين، ومع ذلك، فقد اكتسبت هذه الانتخابات أهمية خاصة؛ فمن ناحية تُعد مؤشراً على مستقبل السباق الرئاسي الذي سيجرى بعد ما يزيد على العام.
3- استفتاء على سياسة "تساي": أكسبت رئيسة تايوان، تساي إينج وين، الانتخابات طابعاً سياسياً يرتبط بقضايا خارجية، فقد قدمتها إلى الرأي العام على أنها أكثر من مجرد اقتراع محلي، قائلة "إن العالم يراقب كيف تدافع تايوان عن ديمقراطيتها وسط التوترات العسكرية مع الصين"، وبالتالي كانت الرئيسة ترغب في أن تستثمر نجاح حزبها الذي كانت تتوقعه في هذه الانتخابات للتأكيد على دعم الشعب التايواني لسياساتها الرامية للانفصال عن الصين، وهو ما لم يحدث.
أسباب انحسار الشعبية:
يمكن رصد ثلاثة أسباب رئيسة وراء خسارة الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، وفوز غريمه المعارض الكومينتانج، وذلك على النحو التالي:
1- الإفراط في التركيز على الصين: تركز في الغالب الانتخابات المحلية على القضايا ذات البُعد المحلي التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين اليومية، وأغلبها تتعلق ببرامج الرعاية الاجتماعية والإسكان والطاقة. ومع ذلك، كان الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم برئاسة تساي إينج وين، وكبار المسؤولين الحكوميين يركزون فقط على ديمقراطية تايوان وكفاحها ضد الصين، حيث يُلاحظ أن كل تصريحات رئيسة تايوان بشأن الانتخابات غلب عليها الطابع العدائي مع بكين، إذ كانت تحث الناخبين على استخدام هذه الانتخابات للوقوف في وجه بكين وإظهار ديمقراطية تايبيه، وأنها ستبقى مستقلة على الرغم من تهديدات الصين.
2- تفضيل الشعب التايواني السلام: من الواضح أن تركيز الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في الانتخابات على الصين باعتبارها الخصم الذي قد يغزو الجزيرة جاء بنتائج عكسية مع الناخبين، فمن المعروف أن الشعب التايواني يُفضل السلام والاستقرار، بهدف ضمان تحقيق التنمية الاقتصادية، وبالتالي، رفض خطاب الحزب الحاكم المعادي للصين.
وتجدر الإشارة إلى أن علاقة الشعب التايواني بالصين علاقة معقدة. فعلى الرغم من رفض الأغلبية العظمى من الشعب الوحدة مع جمهورية الصين الشعبية، فإنها في الوقت ذاته ترفض الاستقلال الرسمي الفوري عن الصين، ومن ثم يفضل معظم الشعب سيناريو الحفاظ على الوضع القائم، وهو الأمر الذي يفسر نفور المواطنين من الخطاب المتشدد الذي يشعل التوترات مع بكين.
3- الاستياء من الحزب الحاكم: كشفت استطلاعات الرأي المختلفة أن أكثر من نصف التايوانيين غير راضين عن أداء الحكومة بشأن تعاملها مع تفشي جائحة كورونا، كما لم تستطع الحكومة تحقيق الاستقرار الاقتصادي، أو توفير بعض الأمل في نمو مستقبلي، لدرجة أن التوقعات تشير إلى أن النمو الاقتصادي في تايوان سينخفض هذا العام إلى 3,76% أي ما يقرب من نصف النمو في العام الماضي البالغ 6,57%، بسبب تباطؤ الطلب العالمي والضغوط التضخمية.
قراءة في نتائج الانتخابات:
تتمتع هذه الانتخابات بأهمية كبيرة بالنظر إلى قربها من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية والمقرر لها عام 2024، وذلك على النحو التالي:
1- تراجع التدخل الصيني: لم تشهد الانتخابات التايوانية تدخلاً ملحوظاً من قبل بكين، لدرجة أن وزير خارجية تايوان، جوزيف وو، والذي لم يتردد أبداً في استدعاء التدخل الصيني في تصريحاته، قال للصحفيين قبل الانتخابات إن تدخل الصين "تراجع" قبل الانتخابات المحلية، مرجعاً السبب في ذلك إلى احتمالية انشغال بكين بمشاكلها الداخلية.
2- معاقبة الحزب الحاكم: بالنظر إلى أن ما يقرب من نصف الناخبين التايوانيين لا ينتمون إلى الحزب الديمقراطي التقدمي، أو غريمه المعارض حزب الكومينتانج، فإن هذه الانتخابات أبرزت ميل الناخبين إلى معاقبة الحزب الحاكم، حيث أرادوا توصيل رسالة مفادها أنه لا يمكن أن يأخذ ولاءهم كأمر مسلم به، فلا مجال للتصويت الأعمى لحزب واحد؛ حيث إن قرار التصويت يتعلق فقط بمدى إقناع المواطنين ببرامج كل حزب.
3- نجوم سياسية صاعدة: لا شك أن هذه الانتخابات هي الطريق لفتح السباق الانتخابي لرئاسة تايوان في عام 2024، ومع تراجع شعبية، تساي إنغ ون، واستقالتها من منصب رئاسة الحزب الحاكم بعد خسارة حزبها في هذه الانتخابات، يلوح في الأفق قادة سياسون جُدد، ربما يكونون أبطال السباق الانتخابي الرئاسي القادم، وأبرزهم:
أ- إريك تشو (Eric Chu): يشغل منصب رئيس حزب الكومينتانج، وسبق وأن تعرض للهزيمة من قبل تساي في انتخابات عام 2016، ولذلك تبنى سياسات برجماتية، تقوم على إقامة علاقة وثيقة مع الصين، من دون أن يترجم ذلك إلى تأييدها. وبهذا، يتجنب إريك الوقوف بجانب الجناح المتشدد في الحزب الذي يؤمن بأن تايوان جزء من الصين، أو الدعوة إلى استقلال تايوان عن الصين، كما ينادي الحزب الديمقراطي التقدمي.
ب- تشيانج وان-آن (Chiang Wan-an): أصغر عمدة في تاريخ تايبيه، وهو حفيد الرئيس التايواني السابق، تشيانغ كاي شيك، الذي قاد حزب الكومينتانج لمدة خمسة عقود. ولا شك في أن تولي هذا المنصب يُنظر إليه بعين الاهتمام، لأن رئيسين سابقين لتايوان، كانا قبل توليهما المنصب الأعلى للجزيرة، رئيسين لبلدية تابيبه.
ج- ويليام لاي (William Lai): يشغل حالياً منصب نائب رئيسة تايوان، ومن أكثر الشخصيات الأوفر حظاً للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة بعد تساي، كما يقدم نفسه دائماً على أنه داعم لاستقلال تايوان.
التداعيات المحتملة:
ترتبط الانتخابات بأبعاد خارجية تتصل بتحديد مستقبل العلاقة عبر مضيق تايوان، والترتيبات الأمريكية القادمة بعد تراجع الحزب الديمقراطي التقديمي الذي يقدم نفسه دائماً باعتباره داعماً لاستقلال تايوان، والأقرب إلى واشنطن، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- إبداء الصين رغبتها في فتح صفحة جديدة: تأمل الصين في أن يؤدي فوز حزب الكومينتانج إلى تهدئة العلاقات بين تابيبه وبكين، وذلك بعد توتر غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في أغسطس 2022. وعلى هذا النحو، قال المتحدث باسم الصين، تشاو تشو، إن بكين "ستواصل الاتحاد مع مواطني تايوان، وتعزز بشكل مشترك التنمية السلمية والمتكاملة للعلاقات عبر المضيق"، وذلك من أجل رفاهية الشعب على الجانبين.
2- الصدمة الأمريكية: سادت حالة من الصدمة أوساط دوائر صنع القرار الأمريكية عقب خسارة الحزب الحاكم، وفوز حزب الكومينتانج، المؤيد لإقامة علاقات وثيقة مع الصين. واللافت للانتباه فقط هو ما كشفته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، في 27 نوفمبر الماضي، بأن مسؤولين أمريكيين ونواباً في الكونجرس يخشون من أن يؤدي الصراع في أوكرانيا إلى تأخير جهود تسليح تايوان بما يقدر بحوالي 19 مليار دولار، بالتزامن مع تصاعد التوترات مع الصين، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة ستبذل قصارى جهدها خلال الفترة المقبلة لدعم الحزب الديمقراطي التقدمي، وربما ستدعم، ليس فقط حكومته عسكرياً لمواجهة الصين، كخصم استراتيجي، ولكنها قد تتجه إلى محاولة تعزيز شعبيته في الشارع التايواني، رغبة في ترتيب أوراق الحزب مرة أخرى للمضي قدماً في تحقيق انتصار كبير في السباق الانتخابي الرئاسي عام 2024.
وفي الختام، يمكن القول إن الانتخابات المحلية كشفت أن توجهات تساي العدائية تجاه الصين لا تلقى دعماً شعبياً داخلياً، بدليل فوز المعارضة التي تطالب بعلاقات ودية مع الصين. ولاشك أن مثل هذا التطور سوف يمثل انتكاسة للجهود الأمريكية الرامية إلى بناء تحالفات مناهضة للصين في جنوب شرق آسيا. ومن المرجح أن تستمر الإدارة الأمريكية في دعم التوجهات الانفصالية لتايوان، بغض النظر عن نتائج الانتخابات الأخيرة.